دراسات نقدية- مقالات صحفية- قصص قصيرة- مسرحيات

الحب في بيروت..!

التجريب والتجديد في رواية سحر مندور الثانيةصورة..

 

     بعد روايتها الأولى (سأرسم نجمة على جبــين فيـينا) عام2007 التي تصدرت لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في معرض بيروت الدولي للكتاب تحاول الكاتبة والإعلامية (اللبنانية – المصرية) سحر مندور مقاربة جنس الرواية العربية مع جنس الواقع البيروتي المنفتح في روايتها الثانية (حب بيروتي) عام 2009 عبر تناول قصة حب بين الشاب أحمد والفتاة ماجدة تنتقل فيها عبر محطات عدة، لتنتهي بالانفصال دون عداء، وتصل إلى ختامها دون عناء.. فهل كانت هذه المقاربة لصالح طرف على حساب الآخر، أم لم تحقق شرط المقاربة نهائياً؟ وهل اكتفت بتفريغ ما يحلو لها وما يعتلج في صدرها من ضغوط وهواجس على الورق، لتقول إنها أنجزت ما تعتقد أنه.. رواية؟

قصة الرهان الخاسر..

    تقوم حكاية الرواية على رهان بسيط، ومحفوف بالمخاطر بين شاب وفتاة في مقتبل العمر، وهذا الرهان نتيجة طبيعية، بل لا بد منها بعد مرور خمس سنوات على علاقتهما، حيث تطلب ماجدة من أحمد أن يتزوجها.. لكن أحمد يصدم وينتابه الخوف، فيُحجم ويختفي بصمت، وماجدة تنتظر وهي محبطة من ردة فعله المفاجئة.. وتنتقل علاقتهما بعد ذلك من تبادل الخوف من الارتباط، إلى التسرع في الرفض وتداعياته المرتبطة بالإحساس بالثقل النفسي وفقدان الأسباب المقنعة للانفصال.. ثم يتوصلان على حل مؤقت، دون أن يفترقا، وهو الانفتاح على علاقات أخرى، يجرب فيها كل طرف أن يقيم علاقة مع آخر، فلربما وجد عنده الملجأ والملاذ، أو وجده جحيماً وعذاباً، عندها يرجع إلى الحبيب بروح جديدة وعفوية خالية من الضغوط والتساؤلات.. وينتهي هذا الرهان بالانفصال، لأنه باطل من أساسه، لخلوه من الضوابط!

    ماجدة مترددة، وأحمد خائف.. لا تجد ماجدة في طلب الزواج إلا حلاً لتسكت خوفها، وما اقتراح العلاقة المفتوحة إلا وسيلة لتسجن حبيبها. أمّا أحمد فتعجبه التجربة، تاركاً غيرته، ولم يرفض أن تنام حبيبته في فراش آخر، كأنّهما كانا يتباريان على الانفلات من أي التزام، أو مسؤولية.

    بعد الموافقة المفترضة من الطرفين على تنفيذ اللعبة تنطلق ماجدة للبحث عن شاب تستعيض به عن أحمد فلا تجد إلا مروان الضرير الذي يواجه معها صعوبة الإقناع، وتعيش معه عرقلات التواصل مع شاب ضرير. ثم تتركه لتنشىء علاقة أخرى مع شاب يدعى جعفر، ثم مع خالد.. وهكذا، بينما أحمد يحاورها كل فترة عن الشاب الذي برفقتها ويحاول تقليده أو مهاجمته، ويظل متردداً وضائعاً حتى يلتقي بكارمن التي تكبره بعشرة سنوات على الأقل، ورغم ذلك يقيم معها علاقة سريعة تجعله يندم، ويزداد تعلقاً بماجدة المنشغلة مع آخرين. وبعد جدال وسجال، وبعد محاورات عديدة ولقاءات مديدة يصلان إلا تعلق كل منهما بالآخر.. لكن الاستمرار مستحيل، فلتكن الصداقة إذاً.. وبكل بساطة.

    خضع أحمد لتغيرات عديدة بعد هذه اللعبة، فقبل ذلك كان شاباً لاهياً كاذباً، ومنفلتاً. لا يؤمن بالضوابط والمسؤوليات، ومصير أي علاقة عاطفية في نظره كمصير أي كأس زجاجي مكسور.. وصار بعد هذه التجربة رجلاً يتبنى بشكل كامل سيكولوجيا المرأة ويدافع عنها، وصار من الصعب عليه أن يكذب أو يتهرب من المسؤوليات.. وإن كانت النهاية غير مرغوبة من قبله لكنه سيتحمل بموضوعية مسؤولية الصداقة بكل إخلاص مع ماجدة. والكاتبة تتقصد توضيح التغير عند الرجل مع بقاء ماجدة على حالها لتدلل على علل الرجل وتقدم له الدواء، وكأنه هو الملام والمرأة هي الضحية، لأن ماجدة – حسب توضيح الكاتبة- لم تبحث عن الجنس أو الحب، بل كانت تبحث عن قصة مثيرة ترويها لأحمد حتى تغيظه وتستفزه.. هل كانت ماجدة من العفة بمكان حتى لم تنس أحمد حتى في أكثر اللحظات حميمية!؟ لماذا لم تعش ولو على سبيل الافتراض لمدة أسبوع على الأقل حمى الحب، أو حمى الانفصال؟ لماذا اكتفت بيومين أو ثلاثة من الانتظار فقط، وأعجبها موضوع الانفتاح بعد أول لقاء مع شاب آخر؟

جيل بيروتي مهزوز

    لم تكن بيروت مكاناً يحتضن هذه العلاقة، بقدر ما كان دلالة على هذا الجيل البيروتي الذي انفلت من كل الضوابط التي كانت مفروضة عليه، وتخلى عن كل المسؤوليات، وانفتح على الغرب دون ركائز تحميه في المستقبل، فكانت حياته الخالية مبنية بالنتيجة على عامل الخوف، والتردد.

    هذا الخوف من الاستقرار ومن المجهول أثناء غياب معظم الضمانات الأخلاقية والاجتماعية.. وغيرها، لم يمنع ماجدة وأحمد من إعطاء نفسيهما فسحة من التجريب وإعادة النظر في العلاقة، وقدرتها على الاحتمال، في ظل وجود منافس جديد لكل طرف، روحاً وجسداً، وفي ظل توقع مستمر للخطر والمغامرة. هذا هو جيل الكاتبة نفسها.. الذي يتردد في تحمل المسؤولية، ويريد أن يعبّر عن نفسه، يخرج ويمرح ويسكر.. جيل تهاوت أمام عينيه كل الأحلام، فقرر الهروب رافضاً القيود والثوابت، تسكنه الحرية، ويلاحقه الخوف.

هل هذا تجريب.. أم تخبيص؟

    يصعب على أكبر الأدباء الخروج من ذواتهم والكتابة على لسان شخصية من غير جنسهم بشكل مطلق، أي يصعب على الأديب أن يكتب على لسان امرأة، وأن يعيش كل تفاصيلها، لأنه لا يستطيع الخروج من ذكوريته، فكيف الحال مع سحر مندور التي كتبت معظم الرواية وهي تتحدث بصيغة المتكلم، وبشكل كامل تحكي على لسان أحمد وكأنها هي؟ لكنها رغم كل محاولاتها لتحقيق هذه الفرضية لم تستطع أن تجعل أحمد يظهر بمظهر الشباب، بل ظل في كثير من تصرفاته وكلماته أشبه بالنساء. وصار أحمد نصف أنثى على خلاف الواقع.

    هذا غير أن الكاتبة كانت تنتقل من صيغة الراوي كلي المعرفة إلى صيغة الراوي الداخلي الذي لا يعرف إلا ما يراه أمامه من أحداث أو أشخاص. وتنتقل بشكل غير متوازن أو ممهد له بشكل منطقي، ودون سابق إنذار. فبينما تتحدث بصيغة المتكلم عن شخصية أحمد نجدها تتحول فجأة إلى صيغة الغائب لتشرح نقطة أو أكثر عن العلاقة بين أحمد وماجدة، أو تتحول وبشكل سريع إلى حوار ثنائي لا رابط له بما سبقه من مواضيع.. وقلما تنتقل تبعاً لضرورة السرد الذي يتطلب توضيح بعض المحاور في شخصية البطل، بل لضرورة الحالة المزاجية التي تعيشها وكأنها تكتب مذكراتها عن علاقة مرت بها على مدى عام كامل، وتريد من أصدقائها الذين تابعوا ما جرا معها أن يقرؤوها، دون الاكتراث لغيرهم.

أما لغة الرواية فبسيطة ومتقلبة، تتبدل بين الفصحى والعامية دون ترتيب أو تنظيم، فمثلاً لم تخصص السرد أو الوصف باللغة الفصحى وتترك للعامية اللبنانية الحوارات بين الشخصيات، بل تعمدت خلط العامية والفصحى بحيث أن القارىء لا يعرف متى وفي أية لحظة تصادفه كلمة عامية ضمن جملة أو حوار فصيح.

    ويغيب السرد أو الوصف أمام حضور الحوارات التي تأخذ شكل السيناريو التلفزيوني أكثر من أن يأخذ شكل الحوار الروائي الذي يأتي لضرورات ملحة تستدعي تحمل مسؤولية كل كلمة تقولها الشخصية على لسانها، أو تستدعي ضرورات أخرى.. وتصير الرواية في المجمل عبارة عن مشاهد متقطعة، أو مستعادة، أو متسارعة.. مع غياب شبه كامل للوصف الروائي الذي يكون ذا هدف توضيحي أو درامي، وأكبر دليل على ذلك هو غياب أي توصيف لبيروت مع أن الكاتبة تحدد أماكن بعينها مثل مقهى الروضة أو الكازابلانكا.. أوغيرها، وللشخصيات تواجد ملحوظ في هذه الأماكن، بل وذكريات.. فكيف يغيب توصيف مثل هذه الأماكن ولها كل هذا الدور في الرواية؟ إلا إنْ كانت الكاتبة تتعمّد كتابة الرواية لأهل بيروت تحديداً، الذين يعرفون هذه الأماكن عن ظهر قلب!! إنها لم تُتعب نفسها في وصف بيروت، لكنها أتعبتها في نسخ مقاطع طويلة وتاريخية ومباشرة، ولا علاقة لها بأحداث الرواية مثل نسخ قصة القائد خالد بن الوليد عن الويكيبيديا (الموسوعة الحرة) على مدى ثلاثة صفحات أو لكي تقول إن ماجدة تنوي مصادقة شاب يدعى خالد، وأبوه اسمه وليد..!! 

    من غير المعقول أن تكون الكاتبة على جهل بما ارتكبت في روايتها هذه من مجازر على صعيد الرواية العربية والعالمية، لذا كان السؤال المطروح في البداية.. هل هذه رواية تجريبية على الصعيد الفني، أم هي مجرد لعب وعبث دون دراية؟!

مصدر الرواية:

مندور، سحر – حب بيروتي-  دار الآداب – بيروت – الطبعة الأولى – 2009

كتابة تعليق